الحمد لله والصلاة والسلام علَى رسولِهِ ومُصْطَفاه محمد بن عبد الله ، وَآلهِ وصحبهِ ومَن والاه ، أمَّا بعدُ : فالأصل في الشعر أن يكون كالنثر من حيث الالتزام بالقواعد النحوية والضوابط الصرفية ، ولـكنْ لِكَوْنِ الشعر أسيرَ أوزانٍ محدودة ، وحبيسَ بحورٍ معدودة ، جاز فيه من الخُرُوقات ما لا يجوز في غيره من الكلام ، مراعاةً لاستقامة أوزانه على الدوام ، وتحقيقًا لجمال النظم والانسجام ، فالناظر في أشعار العرب الأوائل الفصحاء يرى أنهم تعمدوا مخالفة قواعد النحو والصرف في بعض كلمات قصائدهم من أجل المحافظة على أوزانهم الفطرية وتحقيق الاتساق والانسجام في نظم أبياتهم الشعرية ، وهذا وإن كان قليلاً إلا أنه موجود ملحوظ ، وقد اصطلح العروضيون -فيما بعد- على تسمية هذه الخروقات اللغوية المقصودة بــ(الضرائر أو الضرورات الشعرية) .
هي خَرْقُ الشاعر عن عمدٍ وقصدٍ لبعض قواعد النحو والصرف مراعاةً للوزن ، بما لا يُمكن قبوله في النثر .
● منها :
ومنه قول عمرو بن كلثوم:
كَأنَّ سُيُوفَنا فِـينا وفيهمْ ** (
وقول لبيد بن ربيعة :
أَوَ لَمْ تَكُنْ تَدْرِي نَوَارُ بِأنَّنِي * وَصَّالُ عَقْدِ (
والمشهور أن أوزان جمع التكسير ممنوعة من الصرف ، فيكون تنوين (مخاريق) و(حبائل) في البيتين السابقين من باب الضرورة ، ولـكن حكى الأخفش والكسائي أن صرف ما لا ينصرف -مُطلقًا- لغةُ قَوْمٍ ، إلا أفعل التفضيل ، ويشهد لذلك ورود بعض الكلمات في القرآن الكريم على هذا الوجه ، مثل قول الله تعالى في سورة الإنسان: {إنا أعتدنا للكافرين سلاسلاً
وأغلالاً وسعيرًا} فقرأ بتنوين {سَلاسِلا
} نافع وأبو جعفر والكسائي وشعبة ورويس وهشام بخُلْفٍ عنهما ، والباقون بدون تنوين . وكذلك قرأ بعض القراء العشرة بتنوين {قواريرًا
} في موضِعَيْهَا ، وتنوين {ثمودًا
} المنصوبة ، وغير ذلك ، ومعلومٌ أنه لا تصح قراءةٌ إلا إذا كانت موافقةً لوجه من وجوه لغة العرب .
● أمَّا
ومنه قول العباس بن مِرْداسٍ السُّلَمِي :
وما كانَ حِصْنٌ ولا حابسٌ *** يفوقانِ (
فاكتفى بفتح السين بدون تنوين لئلا ينكسر الوزن ، رغم أن لفظ (المِرْداس) مُتَصَرِّفٌ ، فيقال: رَدَسْتُ القومَ أَرْدُسُهُمْ رَدْسًا، إذا رميتهم بحجر، وكذلك: رادَسْتُ القومَ مُرادَسَةً ، والمِرْداس: هو حجرٌ يُرمى في البئر ليُعلَم أفيها ماءٌ أم لا . ومنه سُمِّيَ الرجل .
وقد اعتبر “الأخفشُ” تَرْكَ صرفِ ما ينصرف من ضرورة الشعر ، ولكن “المُـبَرِّد” أنكر ذلك وأجاب عن بيت العباس بقوله: “الراوية الصحيحة: يَفُوقانِ شَيْخي في مَجْمَعِ”.
● ومنها :
ومنه قول عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- :
فَسِرْنا إليهمْ (كَا
فخفَّفَ فاء (كافة) مراعاةً للوزن ، رغم أن الأصل فيها التشديد ، بَيْدَ أنَّها مسبوقة بمد ، ولا يصلح الجمْع بين ساكنين متتاليين في الشعر ، اللَّهُمَّ إلاَّ في آخر حرفين من ضرب البيت المجزوء إن أصابه التذييل فصار (متفاعلانْ) أو أصابه التسبيغ فصار (فاعلاتانْ) .
● ومنها :
وتراهما مجتمعَيْنِ في قول القائل :
ألا رُبَّ مَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أبٌ ** وَذِي وَلَدٍ لَمْ (يَ
فسكَّنَ اللام وفـتَح الدال من (يلده) مراعاةً للوزن ، مع أن الأصل كسر اللام وجزم الدال (لم يَلِدْهُ) ، وهذا نادر وغريب .
● ومنها :
نحو قول الأحوص :
سَلامُ اللهِ يا (
وليسَ عليك يا مَطَرُ السلامُ
فـنَوَّنَ (مطر) في الشطر الأول مع أنه منادَى مبني لأنه نكرة مقصودة ، ولكن ما وجه الضرورة في تنوين (مطر) ؟! لو جعله مبنيًّا على الضم بدون تنوين على الأصل لاستقام الوزن أيضًا على البحر الوافر مع دخول زِحاف الكف على التفعيلة الثانية في البيت ، فالظاهر أن الخطأ في رواية البيت بالتنوين ، وأنه خالٍ من الضرورة ، والله أعلم .
وأمَّا قول مهلهل بن ربيعة :
ضَرَبَتْ صَدْرَهَا إلَيَّ وقَالَتْ ** يا (
فـيقال أنه اضطر إلى تنوين (عَدِيًّا) ضرورةً ! والأصل أن يقول: (يا عَدِيُّ) بالبناء على الضم ما دام يقصد أن ينادي عَلَمًا مفردًا ، ولكن ما وجه الضرورة هنا أيضًا في جعل المنادى مُنَوَّنًا بالفتح ؟! ولو بقي على الأصل لم ينكسر وزن البحر الخفيف باعتبار دخول زِحاف الكف على التفعيلة الأولى في الشطر الثاني ، فالظاهر أن الشاعر قصد أن ينصرف عن مناداة اسم العلم المفرد إلى مناداة معنى الاسم فأصبح ينادي نكرة غير مقصودة ، ولذلك نصب ونَوَّنَ ، والله أعلم .
● ومنها :
نحو قول عبد الرحمن بن حسان :
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ (
والشَّـرُّ بالشَّـرِّ عِـنْدَ اللهِ مِـــــثْـلانِ
فاضطر لحذف الفاء من جواب الشرط مراعاةً لوزن البحر الطويل مع أن الفاء لازمة ما دام جوابُ الشرط جملةً اسمية .
● ومنها :
لا أنْتَهِي لا أنْثَنِي لا أرْعَوِي ** ما دُمْتُ فِي قيدِ الْحَيَاةِ ولا إذا
فالتقدير: (ولا إذا
ويُسمَّى ذلك في علم البديع بـ”الاكتفاء”، وعلى ذلك يُمكن للشاعر تعمُّدُهُ بدون اضطرار ، والله أعلم .
ومن ذلك قول الإمام الشافعي -رحمه الله- :
إنِّي رأيتُ وُقُـوفَ المَـاءِ يُفْسِدُهُ
إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ (يَطِ
فكَسَرَ الباء من (لَمْ يَطِبِ
الْ
مَاء) .
● وقد يَرِدُ
ولَقَدْ كَفَفْتُ عِنَانَ عَيْنِي جَاهِدًا
حتى إذَا أعْـيَيْتُ أطْـلَقْـتُ (
فحذف النون من (الْعِـنَا
● ومنها :
الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيِّ (الأجْـلَلِ) ** الْوَاحِدِ الْفَرْدِ الْقَدِيمِ الأَوَّلِ
فـفكَّ إدغام (الأجَـلِّ) مع فتح الجيم واللام الأولى !
وهذا غريب شاذ غير مستساغ .
● هذه أمثلة لبعض الضرورات الشعرية الواردة في أشعار العرب ، وهناك أصنافٌ أخرى غير ما ذكرتُ ، فليست محصورةً في عددٍ معين خلافًا للزمخشري الذي جعلها عشر ضرورات فقط فقال :
ضَـرُورَةُ الشِّعْرِ عَشْرٌ عُدّ جُـمْلَـتَها ============
=========== قَـطْعٌ ، ووَصْلٌ ، وتَخْفـيفٌ ، وتَشْدِيدُ
مَـدٌّ ، وقَـصْـرٌ ، وإسْكانٌ ، وتَـحْرِكَةٌ ============
============= ومَـنْعُ صَرْفٍ ، وصَرْفٌ ، تَمَّ تَعْدِيدُ
والجمهور زادوا عمَّا ذكره الزمخشري ، والذي ينبغي على الشعراء المُوَلَّدِينَ أن يتجنبوا اللجوء إلى الضرائر إلاَّ في أضيق الحدود لأنها خروج عن الأصل والإكثار منها دالٌّ على العجز وضعف الصنعة وقلة الحيلة ، وما ورد من تلك الضرائر في أشعار العرب الأوائل فـقليلٌ نادرٌ وعلى سبيل الشذوذ ، وإن كان بعضها مقبولاً مستساغًا كما أشرنا ، وأكثر هذا القسم تجد له وجهًا في لغة العرب ، فقد يخرج عن كونه ضرورةً .
بعض المُـصَـنِّفِين توسَّعوا في باب الضرورات وأدخلوا فيها ما ليس منها ، فأتوا بوجوه صحيحة ولهجات عربية فصيحة أوردها الشعراء الأوائل في أبياتهم ، فظن هؤلاء أنها على سبيل الاضطرار وأنها مخالفة للقواعد والأصول ، والحق أنهم هم الذين غفلوا عن صحة تلك الوجوه وفصاحتها ، فوجب التنبيه على جانب من تلك الغفوات ، تذكيرًا للناسين وتنبيهًا للغافلين ، فمن ذلك :
كقول مرداس الأسَدِي :
كَيْمَا أُعِدَّهُ
فضَمَّ ميم الجمع في كل من (أُعِدَّهُ
وعليه: فقد وَهِمَ مَن زَعَمَ أن صِلَةَ ميم الجمع ضرورة شعرية ، بل هي لغة فصيحة .
كقول النمر بن تولب :
يَسُرّ الْفَـتَى طُولُ السَّلَامَةِ وَ(
فَـكَـيْف تَرَى طُولَ السَّـلَامَةِ يَـفْـعَـلُ
فحذف الهمز من لفظ (البقا
وعليه: فقد وَهِمَ مَن زَعَمَ أن حذف الهمز المتطرف بعد ألف وقفًا يعتبر ضرورةً شعرية ، بل هو لغةٌ فصيحة .
● وقد كَثُرَ لَغَطُ اللاغطين واشتدَّ وَهْمُ الواهمين في اعتبار كل تغيير يحلُّ بالهمز ضرورةً شعرية ! وليس الأمر كذلك ، بل للهمز وجوه كثيرة صحيحة فصيحة استخدمها العرب الأوائل ، بل ونزل القرآن بها ، ومن ذلك: تحويل همزة القطع إلى همزة وصل مع نقل حركتها إلى الساكن الذي قبلها ، نحو قول الله تعالى: {قَ
وكذا من وجوه تغيير الهمز عند العرب: مَدُّ همزة الاستفهام إذا تَلِيَتْها همزة قطع متحركة ، كما في قوله تعالى: {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أمِ السَّمَاءُ} فقرأها أبو عمرو وأبو جعفر وقالون وهشام بخُلْفٍ عنه بإدخال ألِفٍ بين الهمزتين (ءَ
إلى غير ذلك من وجوه تغيير الهمزات المذكورة في كتب اللغة والقراءات .
● فأكتفي بتلك الأمثلة التي بها يتبيَّن المقصود ويظهر المراد ، مؤكِّدًا على ضرورة استقصاء البحث والتنقيب في وجوه اللغة ولهجات العرب قبل التسرع في الحكم بالخروج عن الأصل أو الشذوذ .
وإليك اختصار هذا الدرس من منظومة (الخُلاصة الشافية) حيث قلتُ فيها :
وَالأَصْـلُ أَنَّ الشِّـعْـرَ كَالـنَّـثْرِ الْـتِـزَا ===============
================= مًـا بالْقَـوَاعِدِ وَالضَّـوَابطِ يُـنْـشَدُ
لَـكِــنَّـهُ إِنْ تَـضْــطَـرِبْ أَوْزَانُـهُ ==================
================= تَـدْعُ الضَّـرُورَةُ خَـارِقًا لا يُـنْـقَـدُ
فَـيَـرُوقُ (تَـصْـرِيـفٌ لِـمَـا لَمْ يَـنْـصَـرِفْ) =============
============== وَ يَـسُـوغُ (تَـخْـفِـيفٌ لِـمَـا يَـتَـشَـدَّدُ)
وَ يُـجَـازُ (تَـحْـرِيكُ السُّـكُـونِ) وَعَـكْــسُـهُ ============
=============== وَ(لُـزُومُ فَـاءِ جَـوَابِ شَـرْطٍ يُـفْـقَـدُ)
ما ساغَ لِلْعَـرَبِ الأَوَائِلِ مِنْ ضَـرَا ================
================= ئِـرَ فَـالَّـذِي أَوْلَى بـهِـنَّ مُــوَلَّـدُ
وَالْجَـمْـعُ بَـيْنَ اللَّـهْـجَــتَـيْنِ فَــصَـاحَـةٌ =============
================= وَ بلا اسْـتِـنادٍ لِلضَّـرَائِرِ يُـقْـصَـدُ
كَـسُـكُـونِ مِـيمِ الْجَـمْـعِ أَوْ إشْـباعِـهَا =============
================ وَكَـأَوْجُـهِ الْهَـمْـزِ الَّـتِي تَـتَـعَــدَّدُ
وكَـتَبَهُ / أبو قدامة المصري
وفّقه الله لِما يحب و يرضى
لقد كنت أبحث عن شرح جميل وبسيط ورائع ومفيد فوجدته هنا، شكرا على المجهود المتميز، هل يمكن الحصول على نسخة من هذه الدروس؟ مع الشكر الجزيل
Great
السلام عليكم
بارك اللهُ فيك يا أستاذُ.
وددت أن أقول أنّ صرف ما لا ينصرف في القرآن من نحو كلمة (سلاسل) على بعض القراءات ليس لأن بعض العرب يصرفون ما لا ينصرف مطلقًا بل هو نوع من الصرف من الفصيح أن يأتي إذا عُطفت كلمة لا تنصرف على كلمة مصروفة أو العكس وهذا ما حدث على بعض القراءات وقد ذكر ابن مالك هذا الصرف في ألفيته
وهو إحدى لغات العرب
شكرًا لكم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وفيكم بارك الرحمن
إذا صح كلامك عن (سلاسلا) فماذا نقول في نحو (قواريرا) وليست معطوفة على شيء قبلها؟
وقد ذكرتُ في الدرس أن الإمامين الكبيرين الكسائي والأخفش حكيا أن صرف ما لا ينصرف (مطلقًا) هو لغة قوم، فهذا أعمُّ وأنفع مما ذكره الإمام ابن مالك، ولا تضاد بين كلامهما وكلامه أصلًا، فإنهما ذكرا قاعدة عامة مُطَّردة، وهو ذكر قاعدة خاصة تحتويها القاعدة العامة التي أشار إليها الإمامان الكسائي والأخفش.
والخلاصة: أن تصريف ما لا ينصرف يجوز مطلقًا دون ضرورة ودون تقييد عطفه على منصرف، فإن عُطِفَ على منصرف كان جواز صرفه أقوى بلا شك.
شكرا لك على الردّ
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ، أشكركم شكرًا جزيلًا على تلك المحاضرة القيمة ، و أودُّ أنْ أسألكم عن قول الشاعر :
و قالوا : (ترابيّ) فقلتُ : “صَدَقْتُم أبِيْ مِن تُرَابٍ خَلْقَهُ اللهُ آدَمَا
وقعت الضرورة على كلمة (خَلْقَهُ) ؛ إذ سكّن عين الفعل (اللام) ليستقيم البحر ، فهل وقعت الضرورة على هذه الكلمة فقط ؟ و هل هناك ضرورة أخرى في البيت ؟ و هل الاضطرار هنا جائز حسن أم قبيح شاذ ؟ و لكم جزيل الشكر و التقدير …
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك.
إسكان عين الفعل لم يرِد أصلًا في لغة العرب.
وما جاء منه ساكنًا كالبيت المذكور فهو شاذٌّ.
أما اعتباره ضرورة فهو قبيح غير مستساغ.
ويُحتَمل أن يكون ثَمَّ تحريفٌ من رواة البيت وأن يكون أصله:
… أبي من ترابٍ خِلْقَةُ اللهِ آدَما
هكذا بكسر الخاء وفي آخره تاء تأنيث إما بالرفع على اعتبارها بدل من (أبي)، أو بالجر على اعتبارها بدل من (تراب).
والله أعلم.