الحمد لله والصلاة والسلام علَى رسولِهِ ومُصْطَفاه محمد بن عبد الله ، وَآلهِ وصحبهِ ومَن والاه ، أمَّا بعدُ : فقد برع العرب الفصحاء من فحول الشعراء في صياغة القصائد والأبيات على أحسن الوجوه وأبلغ المعاني وأجمل الأوزان ، والتزموا أوزانًا محدودة وبحورًا معدودة في جميع قصائدهم ، كما كانوا يلتزمون قافيةً مُوَحَّدةً من أول القصيدة إلى آخرها ولا يحيدوا عنها ، حتى تَفَوَّقَ بعضهم على نفسه وبلغ من البراعة والإتقان ما يجعله يلتزم في قوافي أبياته بما ليس بلازمٍ أصلاً ! مما يزيد القصيدة حُسْنًا وانسجامًا وروعةً وجمالاً ، ومن ذلك قول “عبد الله بن الزَّبِير الأَسدي” في مدح “عَمْرو بن عثمان بن عفان”، حيث قال:
سَأَشْكُرُ عَمْرًا مَا تَراخَتْ مَـنِيَّتِي =============
============== أَيادِيَ لَمْ تُمْـنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّ
تِ
فَـتًى غَيْرُ مَـحْـجُوب الْغِـنَى عَنْ صَـدِيقهِ =========
============ ولا مُظْهرُ الشَّكْوى إذَا النَّـعْـلُ زَلَّ
تِ
رَأَى خَـلَّتِي مِنْ حَيْثُ يَخْفَى مَـكَانُهَا ===========
============== فَكَانَتْ قَذَى عَيْنَيْهِ حَتَّى تَجَلَّ
تِ
فالْتَزَمَ قبل الرَّوِيِّ لامًا مشددةً مفتوحةً والتزَمَ قبلها بالفتح ، وكان يكفيه الالتزام بحرف الرَّوِيِّ فقط ، وهو التاء المكسورة .
ومن ذلك الباب قول “الفرزدق” :
مَـنَعَ الْحَيَاةَ مِنَ الرِّجَالِ وَنَفْـعَهَا ==============
=============== حَدَقٌ تُـقَـلِّـبُها النِّسَاءُ مِـرَ
اضُ
وَكَأَنَّ أَفْـئِدَةَ الرِّجَـالِ إِذَا رَأَوْا ================
=============== حَدَقَ النِّسَاءِ لِـنَـبْلِهَا أَغْـرَ
اضُ
فالضاد المضمومة هي الرَّوِيُّ ، وقبلها رِدْفٌ بالألِف ، وقبل الرِّدْفِ حَذْوٌ بالفتح ، وكان يكفيه ذلك لتصحيح قافيته ، إلاَّ أنه الْتَزَمَ بحرف الراء قبل الرِّدْف .
وكان “ابن الرومي” من أكثر الناس وَلعًا بالْتِزَامِ ما لا يلزم في أشعاره ، ومن قوله :
لِمَا تُؤْذِنُ الدُّنْيا بهِ مِنْ صُرُوفِها ==============
============== يكُونُ بُكاءُ الطِّـفْلِ ساعَةَ يُولَـ
دُ
وَإلاَّ فَمَا يُـبْكِـيهِ مِـنْها وَإنَّهَا ================
=============== لَأَوْسَعُ مِمَّا كـانَ فِـيهِ وَأَرْغَـ
دُ
إذَا أبْـصَـرَ الدُّنْيا اسْتَهَلَّ كَأنَّهُ ===============
============= بما سَوْفَ يَلْقَى مِنْ أذَاها يُهَـدَّ
دُ
فالْتَزَمَ الفتحَ قبل الرَّوِيِّ المُطْلَق ، مع أنَّ التوجيه ليس بلازمٍ إلاَّ قبل الرَّوِيِّ المُـقَـيَّد .
هـذا ، وقد أراد “أبو العلاء المعَرِّي” إظهار قدراته الشعرية في هذا الباب فأفرد له ديوانًا سمَّاهُ: “لزوم ما لا يلزم”، وكان مما قال فيه :
أغْـنَى الأنـامِ تَـقِيٌّ في ذُرَى جَـبَلٍ =============
=========== يَرْضَى الْقَلِـيلَ وَيَأبَى الْوَشْيَ وَالـتَّـ
اجَا
وَأفْـقَـرُ النّاسِ في دُنْـياهُمُ مَــلِكٌ ==============
=========== يَضْـحَى إلى اللَّجَـبِ الجـرَّارِ مُـحْــتَـ
اجَا
وَقَدْ عَلِمْتُ الْمَـنَايَا غَيْرَ تَارِكَةٍ ================
================ لَيْثًا بـخَـفَّانَ أوْ ظَبْيًا بـفِرْتَـ
اجَا
فالْتَزَمَ حرفَ التاء قبل الرِّدْف ، وهذا ليس بلازمٍ .
ورغم براعته في هذا الباب إلاَّ أنه كان يقع في التكلُّف -أحيانًا- من أجل تحقيق ذلك الالتزام الزائد .
وقد ذهبت طائفةٌ من أهل الصنعة إلى ذم هذا النوع من الالتزام وسمَّوْهُ: الإعنات والتضييق والتشديد ! ورأوْا أن غالب من ولجوا هذا الباب وقعوا في تكلُّفٍ وتعَنُّتٍ من أجل تحقيقه ولو على حساب جمال المعنى وحسن الصياغة ، حتى قال بعضهم في بعض أهل عصره ممن كان يسرف في استعمال هذا النوع :
يَـلْـزَمُ مـا لَـيْسَ لَهُ لازِمًا *** لَـكِـنَّهُ يَـتْـرُكُ مـا يَـلْـزَمُـهْ
وقال آخر :
وَشَـاعِـرٌ قَـرِيـضُـهُ *** مِنْ كُلِّ حُسْنٍ مُـعْـدَمُ
لَمْ يَلْـتَـزِمْ شَيْئًا سِوَى *** لُـزُومِ مَا لا يَـلْـزَمُ
◇ والحقيقة أن هذا الفن غير مذموم بإطلاقٍ ، وإنما المذموم منه هو الذي يصل إلى حد الإسراف ، والذي يُوقِعُ الشاعرَ في التكلُّف لا مَحالة ، أمَّا إذا جاء على السجيَّة وتحقق تلقائيًّا فـنِعْمَ الشعر ذاك .
◆ وهناك لونٌ فريدٌ من “الْتِزَامِ ما لا يلزم” بَلَغَ فيه التكلُّفُ مَبْلَغًا عظيمًا ، ولـكـنه ظريفٌ طريفٌ مُمْتِعٌ بما فيه من غرابة تثير العجَب ، ومن ذلك قول بعضهم :
آبَ هَـمِّي وَهَمَّ بي أحْـبَابي
هَمُّهُمْ مَا بهمْ وَهَمِّي ما بي
فهذا البيت العجيب لا يتحرك اللسان عند قراءته ! فقد التزم ناظمه بترك استعمال حروف اللسان، واكتفى باستعمال حروفٍ تخرج بواسطة الشفتين أو الحلق أو الجوف أو الخيشوم.
وقال آخَر :
قَـطَـعْـنَا عَلَى قـطْعِ الْقَـطَا قـطْعَ لَـيْلَةٍ
سِـرَاعًا عَلَى الْخَـيْلِ الْعِـتَاقِ اللاحِـقِ
فهذا البيت النادر لا تتحرك الشفتان عند قراءته ، فـناظمه ألزم نفسه بترك استعمال الحروف الشفوية ، وهي: الباء والميم والواو والفاء ، كما تعمَّدَ الناظمُ أيضًا عدم إيراد أي تحريك بالضم في البيت حتى لا تتحرك الشفتان .
وأوْرَدَ الحريري أبياتًا سَمَّاها بالعواطل (أي: الخالية من النقط) فلا تجد فيها حرفًا مُعجمًا (منقوطًا) ! :
اعْدُدْ لِحُسَّادِكَ حَدَّ السِّلاحْ ** وَأوْرِدِ الآمِـلَ وِرْدَ السَّمَاحْ
وصَارِم اللَّهْو ووصل المها ** وأعمل الكوم وسمر الرماحْ
واسْـعَ لإدْرَاك مـحـل سـما ** عـمـاده لا لاِدِّرَاع المــراحْ
واللهِ ما السُّؤْدُدُ حَسْوُ الطلا ** ولا مَـرَادُ الحَمْدِ رود رداحْ
وَاهًا لِحـرٍّ واسِـعٌ صَـدْرُهُ ** وهَـمُّهُ ما سِـرُّ أهْلِ الصَّـلاحْ
◆ الـتَّـقْـفِـيَة والـتَّـصْـرِيـع :
ومن صور الالتزام بما لا يلزم التقفية والتصريع ، وورودهما كثير جدًّا في أشعار العرب ، وغالبًا ما يكونان في افتتاح القصائد . وكلاهما يتحقق بموافقة العَروض للضرب قافيةً ووزنًا .
◆ الفرق بين الـتَّـقْـفِـيَة والـتَّـصْـرِيـع :
ذهب فريقٌ إلى أنه لا فرق بينهما ، وذهب آخرون إلى أن بينهما فرقًا يسيرًا يتعلق بأصل وزن العَروض ، فـ(التقفية
) عندهم تكون في البيت الذي تتفق عَروضه مع ضربه في الوزن ابتداءً بدون أي تغيير في العَروض .
● مـثال للتقفية :
لأنِّي عَنِ الْقُرآنِ أَسْـقَـطتُ أُجْرَتِي
=========
========= رَمَـتْنِي نِـبَالُ النَّاسِ مِنْ كُلِّ وِجْهَةِ
فهذا بيتٌ “مُقَفًّى” أي: أنَّ عَروضه وافقت ضربَهُ في القافية مع اتفاقهما ابتداءً في الوزن ، فالعَروض هي (ـتُ أُجْرَتِي = مَفاعِلُنْ) ، والضرب هو (لِ وِجْهَتِي = مَفاعِلُنْ) ، فالبيت من البحر الطويل وعروضه وضربه مقبوضان متفقان في الوزن ابتداءً ، وبتوحيد قافِـيَتَيْهما على رَوِيِّ التاء المكسورة صار البيتُ مُقَفًّى .
◇ وأمَّا (التصريع
) : فيكون في البيت الذي تختلف عَروضه مع ضربه في الوزن ابتداءً ، فيتم تعديل وزن العَروض بالزيادة أو بالنقص حتى تتفق مع وزن الضرب .
● مـثال للتصريع بالزيادة :
قال امرؤ القيس :
ألا عِمْ صَـبَاحاً أيّهَا الطَّـلَلُ البَالي
==========
====== وَهلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ في العُـصُرِ الْخَـالِي
؟
وَهَلْ يَعِمَنْ إلاَّ سَـعِـيدٌ مُـخَـلَّدٌ ============
============ قليلُ الهُمُومِ ما يَبيتُ بأوْجَالِ؟
وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ أحْـدَثُ عَهْدِهِ ==========
=========== ثَلاثِينَ شَهْـرًا في ثَلاثَةِ أحْـوَالِ؟
دِيَارٌ لِسَلْمَى عَافِـيَاتٌ بـذِي خَـالِ
==========
============= ألَحَّ عَلَيْهَا كُلُّ أسْحَمَ هَطَّالِ
تلك الأبيات من البحر الطويل ذو الضرب الصحيح [مَفاعِيلُنْ] ، أمَّا عَروض الطويل فالأصل أن تكون مقبوضة دائمًا [مَفاعِلُنْ] ، إلاَّ أنها أصابها التصريع في البيت الأول ، وكذا في البيت الرابع ، فبرِئَتْ من القبض وصارت صحيحة لتتفق مع الضرب وزنًا وقافيةً.
● مـثال للتصريع بالنقص :
لَوْمٌ لَئِيمٌ لَمْ يَشُـبْهُ رَشَـادُ
=============
============= بَلْ كُـلُّهُ بَعْدَ النِّـفَاقِ سَوَادُ
كَـذِبٌ وَ رَجْمٌ بالغُـيُوبِ وَ حَـيْدَةٌ ===========
============ عَـنْ وَاقِـعٍ ، وَ تَـغَـافُـلٌ يَـزْدَادُ
هذان البيتان من البحر الكامل ، التام ، ذو العروض الصحيحة [متفاعلن] والضرب المقطوع [متفاعِلْ] ، فـتم تعديل وزن تفعيلة العروض في البيت الأول لتصير مقطوعة مثل الضرب ، وبتوحيد قافِـيَتَيْهما على رَوِيِّ الدال المضمومة صار البيتُ الأول مُـصَـرَّعًا .
وقد أشرتُ إلى طَرَفٍ من ذلك في (الخُلاصة الشافية) حيث قلتُ فيها :
وَ يُـعَـدُّ تَـصْـرِيـعُ الْعَـرُوضِ كَـضَـرْبهَا ===============
============== فِي مَـطْـلَعِ الأَشْـعَارِ فَـضْـلاً يُـحْـمَـدُ
وَ ( لُـزُومُ ما لا يَـلْـزَمُ ) اسْتَـعْلَى بهِ ==============
============= شِـعْـرُ الْفُـحُـولِ ، وَحُـسْـنُـهُ مُــتَـفَـرِّدُ
وكَـتَبَهُ / أبو قدامة المصري
وفّقه الله لِما يحب و يرضى
أخي الكريم أرجو إفادتنا ببحر هذا الكلمات إن كانت شعرا حقا مع التقطيع مشكورا وجزيت ألف ألف خير:
يا بائع الطّيب احديني***وخذ من حبيبي واعطني
لا توافق أي بحر من بحور العرب الستة عشر ! ليست شعرًا
جزيت أستاذنا الكريم خير الجزاء وهدانا وإياك إلى أقوم السبل، موفق مقدام إن شاء الله…
آمـــين ، وإياكم .