محتوى الموضوع مواضيع مشابهة تعليقات (4)
    التلخيصات الشافية ... 2014-05-15     ر4303 زيارة      4  
  1. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس29) التزام ما لا يلزم

    الحمد لله والصلاة والسلام علَى رسولِهِ ومُصْطَفاه محمد بن عبد الله ، وَآلهِ وصحبهِ ومَن والاه ، أمَّا بعدُ : فقد برع العرب الفصحاء من فحول الشعراء في صياغة القصائد والأبيات على أحسن الوجوه وأبلغ المعاني وأجمل الأوزان ، والتزموا أوزانًا محدودة وبحورًا معدودة في جميع قصائدهم ، كما كانوا يلتزمون قافيةً مُوَحَّدةً من أول القصيدة إلى آخرها ولا يحيدوا عنها ، حتى تَفَوَّقَ بعضهم على نفسه وبلغ من البراعة والإتقان ما يجعله يلتزم في قوافي أبياته بما ليس بلازمٍ أصلاً ! مما يزيد القصيدة حُسْنًا وانسجامًا وروعةً وجمالاً ، ومن ذلك قول “عبد الله بن الزَّبِير الأَسدي” في مدح “عَمْرو بن عثمان بن عفان”، حيث قال:
    سَأَشْكُرُ عَمْرًا مَا تَراخَتْ مَـنِيَّتِي =============
    ============== أَيادِيَ لَمْ تُمْـنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
    فَـتًى غَيْرُ مَـحْـجُوب الْغِـنَى عَنْ صَـدِيقهِ =========
    ============ ولا مُظْهرُ الشَّكْوى إذَا النَّـعْـلُ زَلَّتِ
    رَأَى خَـلَّتِي مِنْ حَيْثُ يَخْفَى مَـكَانُهَا ===========
    ============== فَكَانَتْ قَذَى عَيْنَيْهِ حَتَّى تَجَلَّتِ
    فالْتَزَمَ قبل الرَّوِيِّ لامًا مشددةً مفتوحةً والتزَمَ قبلها بالفتح ، وكان يكفيه الالتزام بحرف الرَّوِيِّ فقط ، وهو التاء المكسورة .

    ومن ذلك الباب قول “الفرزدق” :
    مَـنَعَ الْحَيَاةَ مِنَ الرِّجَالِ وَنَفْـعَهَا ==============
    =============== حَدَقٌ تُـقَـلِّـبُها النِّسَاءُ مِـرَاضُ
    وَكَأَنَّ أَفْـئِدَةَ الرِّجَـالِ إِذَا رَأَوْا ================
    =============== حَدَقَ النِّسَاءِ لِـنَـبْلِهَا أَغْـرَاضُ
    فالضاد المضمومة هي الرَّوِيُّ ، وقبلها رِدْفٌ بالألِف ، وقبل الرِّدْفِ حَذْوٌ بالفتح ، وكان يكفيه ذلك لتصحيح قافيته ، إلاَّ أنه الْتَزَمَ بحرف الراء قبل الرِّدْف .

    وكان “ابن الرومي” من أكثر الناس وَلعًا بالْتِزَامِ ما لا يلزم في أشعاره ، ومن قوله :
    لِمَا تُؤْذِنُ الدُّنْيا بهِ مِنْ صُرُوفِها ==============
    ============== يكُونُ بُكاءُ الطِّـفْلِ ساعَةَ يُولَـدُ
    وَإلاَّ فَمَا يُـبْكِـيهِ مِـنْها وَإنَّهَا ================
    =============== لَأَوْسَعُ مِمَّا كـانَ فِـيهِ وَأَرْغَـدُ
    إذَا أبْـصَـرَ الدُّنْيا اسْتَهَلَّ كَأنَّهُ ===============
    ============= بما سَوْفَ يَلْقَى مِنْ أذَاها يُهَـدَّدُ
    فالْتَزَمَ الفتحَ قبل الرَّوِيِّ المُطْلَق ، مع أنَّ التوجيه ليس بلازمٍ إلاَّ قبل الرَّوِيِّ المُـقَـيَّد .

    هـذا ، وقد أراد “أبو العلاء المعَرِّي” إظهار قدراته الشعرية في هذا الباب فأفرد له ديوانًا سمَّاهُ: “لزوم ما لا يلزم”، وكان مما قال فيه :
    أغْـنَى الأنـامِ تَـقِيٌّ في ذُرَى جَـبَلٍ =============
    =========== يَرْضَى الْقَلِـيلَ وَيَأبَى الْوَشْيَ وَالـتَّـاجَا
    وَأفْـقَـرُ النّاسِ في دُنْـياهُمُ مَــلِكٌ ==============
    =========== يَضْـحَى إلى اللَّجَـبِ الجـرَّارِ مُـحْــتَـاجَا
    وَقَدْ عَلِمْتُ الْمَـنَايَا غَيْرَ تَارِكَةٍ ================
    ================ لَيْثًا بـخَـفَّانَ أوْ ظَبْيًا بـفِرْتَـاجَا
    فالْتَزَمَ حرفَ التاء قبل الرِّدْف ، وهذا ليس بلازمٍ .

    ورغم براعته في هذا الباب إلاَّ أنه كان يقع في التكلُّف -أحيانًا- من أجل تحقيق ذلك الالتزام الزائد .
    وقد ذهبت طائفةٌ من أهل الصنعة إلى ذم هذا النوع من الالتزام وسمَّوْهُ: الإعنات والتضييق والتشديد ! ورأوْا أن غالب من ولجوا هذا الباب وقعوا في تكلُّفٍ وتعَنُّتٍ من أجل تحقيقه ولو على حساب جمال المعنى وحسن الصياغة ، حتى قال بعضهم في بعض أهل عصره ممن كان يسرف في استعمال هذا النوع :
    يَـلْـزَمُ مـا لَـيْسَ لَهُ لازِمًا *** لَـكِـنَّهُ يَـتْـرُكُ مـا يَـلْـزَمُـهْ
    وقال آخر :
    وَشَـاعِـرٌ قَـرِيـضُـهُ *** مِنْ كُلِّ حُسْنٍ مُـعْـدَمُ
    لَمْ يَلْـتَـزِمْ شَيْئًا سِوَى *** لُـزُومِ مَا لا يَـلْـزَمُ

    ◇ والحقيقة أن هذا الفن غير مذموم بإطلاقٍ ، وإنما المذموم منه هو الذي يصل إلى حد الإسراف ، والذي يُوقِعُ الشاعرَ في التكلُّف لا مَحالة ، أمَّا إذا جاء على السجيَّة وتحقق تلقائيًّا فـنِعْمَ الشعر ذاك .

    ◆ وهناك لونٌ فريدٌ من “الْتِزَامِ ما لا يلزم” بَلَغَ فيه التكلُّفُ مَبْلَغًا عظيمًا ، ولـكـنه ظريفٌ طريفٌ مُمْتِعٌ بما فيه من غرابة تثير العجَب ، ومن ذلك قول بعضهم :
    آبَ هَـمِّي وَهَمَّ بي أحْـبَابي
    هَمُّهُمْ مَا بهمْ وَهَمِّي ما بي

    فهذا البيت العجيب لا يتحرك اللسان عند قراءته ! فقد التزم ناظمه بترك استعمال حروف اللسان، واكتفى باستعمال حروفٍ تخرج بواسطة الشفتين أو الحلق أو الجوف أو الخيشوم.

    وقال آخَر :
    قَـطَـعْـنَا عَلَى قـطْعِ الْقَـطَا قـطْعَ لَـيْلَةٍ
    سِـرَاعًا عَلَى الْخَـيْلِ الْعِـتَاقِ اللاحِـقِ

    فهذا البيت النادر لا تتحرك الشفتان عند قراءته ، فـناظمه ألزم نفسه بترك استعمال الحروف الشفوية ، وهي: الباء والميم والواو والفاء ، كما تعمَّدَ الناظمُ أيضًا عدم إيراد أي تحريك بالضم في البيت حتى لا تتحرك الشفتان .

    وأوْرَدَ الحريري أبياتًا سَمَّاها بالعواطل (أي: الخالية من النقط) فلا تجد فيها حرفًا مُعجمًا (منقوطًا) ! :
    اعْدُدْ لِحُسَّادِكَ حَدَّ السِّلاحْ ** وَأوْرِدِ الآمِـلَ وِرْدَ السَّمَاحْ
    وصَارِم اللَّهْو ووصل المها ** وأعمل الكوم وسمر الرماحْ
    واسْـعَ لإدْرَاك مـحـل سـما ** عـمـاده لا لاِدِّرَاع المــراحْ
    واللهِ ما السُّؤْدُدُ حَسْوُ الطلا ** ولا مَـرَادُ الحَمْدِ رود رداحْ
    وَاهًا لِحـرٍّ واسِـعٌ صَـدْرُهُ ** وهَـمُّهُ ما سِـرُّ أهْلِ الصَّـلاحْ

    ◆ الـتَّـقْـفِـيَة والـتَّـصْـرِيـع :
    ومن صور الالتزام بما لا يلزم التقفية والتصريع ، وورودهما كثير جدًّا في أشعار العرب ، وغالبًا ما يكونان في افتتاح القصائد . وكلاهما يتحقق بموافقة العَروض للضرب قافيةً ووزنًا .

    ◆ الفرق بين الـتَّـقْـفِـيَة والـتَّـصْـرِيـع :
    ذهب فريقٌ إلى أنه لا فرق بينهما ، وذهب آخرون إلى أن بينهما فرقًا يسيرًا يتعلق بأصل وزن العَروض ، فـ(التقفية) عندهم تكون في البيت الذي تتفق عَروضه مع ضربه في الوزن ابتداءً بدون أي تغيير في العَروض .

    ● مـثال للتقفية :
    لأنِّي عَنِ الْقُرآنِ أَسْـقَـطتُ أُجْرَتِي =========
    ========= رَمَـتْنِي نِـبَالُ النَّاسِ مِنْ كُلِّ وِجْهَةِ
    فهذا بيتٌ “مُقَفًّى” أي: أنَّ عَروضه وافقت ضربَهُ في القافية مع اتفاقهما ابتداءً في الوزن ، فالعَروض هي (ـتُ أُجْرَتِي = مَفاعِلُنْ) ، والضرب هو (لِ وِجْهَتِي = مَفاعِلُنْ) ، فالبيت من البحر الطويل وعروضه وضربه مقبوضان متفقان في الوزن ابتداءً ، وبتوحيد قافِـيَتَيْهما على رَوِيِّ التاء المكسورة صار البيتُ مُقَفًّى .

    ◇ وأمَّا (التصريع) : فيكون في البيت الذي تختلف عَروضه مع ضربه في الوزن ابتداءً ، فيتم تعديل وزن العَروض بالزيادة أو بالنقص حتى تتفق مع وزن الضرب .

    ● مـثال للتصريع بالزيادة : قال امرؤ القيس :
    ألا عِمْ صَـبَاحاً أيّهَا الطَّـلَلُ البَالي ==========
    ====== وَهلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ في العُـصُرِ الْخَـالِي؟
    وَهَلْ يَعِمَنْ إلاَّ سَـعِـيدٌ مُـخَـلَّدٌ ============
    ============ قليلُ الهُمُومِ ما يَبيتُ بأوْجَالِ؟
    وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ أحْـدَثُ عَهْدِهِ ==========
    =========== ثَلاثِينَ شَهْـرًا في ثَلاثَةِ أحْـوَالِ؟
    دِيَارٌ لِسَلْمَى عَافِـيَاتٌ بـذِي خَـالِ ==========
    ============= ألَحَّ عَلَيْهَا كُلُّ أسْحَمَ هَطَّالِ
    تلك الأبيات من البحر الطويل ذو الضرب الصحيح [مَفاعِيلُنْ] ، أمَّا عَروض الطويل فالأصل أن تكون مقبوضة دائمًا [مَفاعِلُنْ] ، إلاَّ أنها أصابها التصريع في البيت الأول ، وكذا في البيت الرابع ، فبرِئَتْ من القبض وصارت صحيحة لتتفق مع الضرب وزنًا وقافيةً.

    ● مـثال للتصريع بالنقص :
    لَوْمٌ لَئِيمٌ لَمْ يَشُـبْهُ رَشَـادُ =============
    ============= بَلْ كُـلُّهُ بَعْدَ النِّـفَاقِ سَوَادُ
    كَـذِبٌ وَ رَجْمٌ بالغُـيُوبِ وَ حَـيْدَةٌ ===========
    ============ عَـنْ وَاقِـعٍ ، وَ تَـغَـافُـلٌ يَـزْدَادُ
    هذان البيتان من البحر الكامل ، التام ، ذو العروض الصحيحة [متفاعلن] والضرب المقطوع [متفاعِلْ] ، فـتم تعديل وزن تفعيلة العروض في البيت الأول لتصير مقطوعة مثل الضرب ، وبتوحيد قافِـيَتَيْهما على رَوِيِّ الدال المضمومة صار البيتُ الأول مُـصَـرَّعًا .

    وقد أشرتُ إلى طَرَفٍ من ذلك في (الخُلاصة الشافية) حيث قلتُ فيها :

    وَ يُـعَـدُّ تَـصْـرِيـعُ الْعَـرُوضِ كَـضَـرْبهَا ===============
    ============== فِي مَـطْـلَعِ الأَشْـعَارِ فَـضْـلاً يُـحْـمَـدُ
    وَ ( لُـزُومُ ما لا يَـلْـزَمُ ) اسْتَـعْلَى بهِ ==============
    ============= شِـعْـرُ الْفُـحُـولِ ، وَحُـسْـنُـهُ مُــتَـفَـرِّدُ

    وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وآلهِ وصحبهِ وسلَّم


    وكَـتَبَهُ / أبو قدامة المصري
    وفّقه الله لِما يحب و يرضى


    السابق التالي
  1. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس28) عيوب القافية
    2014-05-10   ر13863 زيارة    3
  2. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس30) الضرورات الشعرية
    2014-05-30   ر5971 زيارة    7
    فهرس السلسلة
  1. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (مقدمة)
  2. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس1) الوحدات الصوتية
  3. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس2) التفعيلات
  4. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس3) بـناء الأبـيات
  5. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس4) الزِحافات
  6. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس5) العِـلَل
  7. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس6) العِـلَل الجارية مجرَى الزِحافات والعـكس
  8. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس7) مـيزان الشعر وتقطيع الأبـيات
  9. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس8) بحور الشِّـعر العربِي
  10. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس9) بحر الهـزج
  11. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس10) البحر الوافر
  12. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس11) بحر الرجَـز
  13. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس12) البحر الكامل
  14. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس13) بحر الرمَـل
  15. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس14) البحر المتقارب
  16. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس15) البحر المتدارك
  17. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس16) البحر الطويل
  18. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس17) البحر المـديد
  19. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس18) البحر البسـيط
  20. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس19) البحر السريع
  21. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس20) البحر الْمنسرح
  22. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس21) البحر الْخـفـيف
  23. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس22) البحر المضارع
  24. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس23) البحر الْمقتضَب
  25. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس24) البحر الْمجـتث
  26. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس25) القافـية (تعريفها/حدودها/ألقابُها)
  27. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس26) حروف القافـية وحركاتُها
  28. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس27) أنواع القوافي
  29. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس28) عيوب القافية
  30. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس29) التزام ما لا يلزم
  31. التلخيصات الشافية في العَروض والقافية (درس30) الضرورات الشعرية
    هـناك 4 تعليقات
  1. يقول مُفَرّد:

    أخي الكريم أرجو إفادتنا ببحر هذا الكلمات إن كانت شعرا حقا مع التقطيع مشكورا وجزيت ألف ألف خير:
    يا بائع الطّيب احديني***وخذ من حبيبي واعطني

  2. يقول مُفَرّد:

    جزيت أستاذنا الكريم خير الجزاء وهدانا وإياك إلى أقوم السبل، موفق مقدام إن شاء الله…

    شارك برأيك

    هل سـئمتَ من كتابة بياناتك؟ سجِّل عضويتك

    ⚠ تنبيه :   التعليق للرجال فقط