محتوى الموضوع مواضيع مشابهة تعليقات (5)
    مقالات منهجية 2021-04-25     ر2950 زيارة      5  
  1. الرد الأكيد على من أنكر أحكام التجويد

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هُداه، أمَّا بعد:
    فقد اطَّلعتُ منذ فترة على بعض المقالات والفتاوى المنسوبة إلى بعض شيوخنا وعلمائنا الأكابر، الذين أفنوا حياتهم في خدمة الدِّين، وتعليمه للمسلمين، ونشر أصول السنة في مشارق الأرض ومغاربها.
    ولَطالَما علَّمونا أنه لا عصمةَ لبشرٍ دون الأنبياء، وحَـفِـظْـنا منهم تلك القاعدة الجليلة: «كُلٌّ يُؤْخَذُ مِن كلامه ويُـرَدُّ ؛ إلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فمهما علا قَدْرُ عالِم، أو ارتفع شأنُ إمام؛ فهو غير معصوم، وواردٌ منه الخطأ والسهو والنسيان.
    ومن هذا المُنطلَق، وعملًا بتلك القاعدة المتفق عليها؛ عزمتُ على أن أكتب ردًّا وجيزًا على مَن أنكر أحكام تجويد القرآن الكريم، ووصَفها بالبدعة !، لعل الله يجعلني سببًا لإظهار الصواب، ويقبلني ناصحًا للعباد، ماحِـيًا لتلك الزَّلَّة العارضة من هؤلاء الأفاضل.

    فأقول -متوكلًا على ربي- :
    إنَّ علم التجويد كسائر العلوم الشرعية، كانت أصولُه قائمةً معمولًا بها في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضي الله عنهم- ثُمَّ لمَّا احتاج الناس إلى تدوينهِ خشيةَ التحريف والنسيان؛ دَوَّنُوه، كما دوَّنوا علوم العقيدة والفقه والحديث … إلخ.

    والدليل على شرعية أحكام التجويد نقليٌّ وعقليٌّ، فأمَّا النقليُّ فمنه:

    ١- ما رواه البخاري في صحيحه (5046) عن قتادةَ، قال: سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ: «كَانَتْ مَدًّا»، ثُمَّ قَرَأَ: {{بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}} يَمُدُّ بـبسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بالرَّحِيمِ.

    2- ما رواه البخاري في «التاريخ الكبير» (2486)، والترمذي في «العلل الكبير» (652)، وابن ماجه في سُـنَـنهِ (138)، وابن حبان في صحيحه (7026)، (7027)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2301)، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أنَّ أبا بكر وعمر بَشَّراه أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
    ((مَن أحَبَّ أن يقرأ القُرآن غَضًّا كما أُنْـزِلَ؛ فلْيقرأْهُ على قراءة ابن أُمِّ عَبْد)).
    وفي رواية الترمذي: ((فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ انْقَلَبَ عُمَرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ، فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَهُ، فَاسْتَمَعَا فَإِذَا هُوَ يَـقْـرَأُ قِرَاءَةً مُـفَـسَّـرَةً حَرْفًا حَرْفًا)).

    3- ما رواه ابن حبان في صحيحه (7078)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، من حديث عبد اللَّه بن عَمْرٍو قال: ((اقرؤوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، وَمِنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمِنْ سَالِمٍ ـ مَوْلَى أبي حذيفة ـ ومن معاذ بن جبل)).

    4- ما أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (8677) عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان يُقْرِئُ رَجُلًا، فَقَرَأَ الرَّجُلُ: {{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}} مُرْسَلَةً، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا هَكَذَا أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، قَالَ: كَيْفَ أَقْرَأَكَهَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا: {{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ}} فَمَدَّهَا [أي: للفقراء]».
    قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/155): وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
    وحسَّنَ الألباني إسناده في «السلسلة الصحيحة» (5/279) وفصَّلَ سبب اللغط حول أحد رواته، وذَكَرَ كلامًا مهمًّا يجدر إيراده كاملًا في ذلك المقام، قال -رحمه الله-:
    ((وهذا إسناد رجاله موثقون غير موسى بن يزيد الكندي، فإني لم أعرفه، ولا ذكره الحافظ المزي في شيوخ ابن خراش في التهذيب، وقد ذكره الهيثمي في المجمع (7 /155) من طريق الطبراني، لكن وقع فيه: (مسعود بن يزيد الكندي)، وقال عَـقِـبَـهُ: «ورجاله ثقات »، وفي ثقات ابن حبان (3 /260): مسعود بن يزيد، يروي عن ابن عمر، روى عنه محمد بن الفضل.
    قلتُ [أي: الألباني]: فالظاهر أنه هو، ولم يورده البخاري وابن أبي حاتم في كتابيهما.
    ثم رأيتُ الحديثَ قد أورده الحافظ ابن الجزري في «النشر في القراءات العشر» (1/313) بإسناده إلى الطبراني به، وفيه: مسعود بن يزيد الكندي، فدلَّ على أن «موسى» في (الطبراني) مُحَرَّف من «مسعود»، والله أعلم.
    وقال ابن الجزري عَـقِـبَهُ: «هذا حديث جليل، رجال إسناده ثقات».
    وأقول: شهاب بن خراش فيه بعض الكلام أشار إليه الحافظ بقوله في «التقريب»: صدوق يخطئ.
    وقال الذهبي في «الكاشف»: وثقه جماعة، قال ابن المهدي: لم أرَ أحدًا أحسن وصفًا للسُّنة منه، وقال ابن عدي: له بعض ما ينكر.
    قلتُ [أي: الألباني]: فمثله حسنُ الحديث إن شاء الله تعالى.
    واستدل به ابن الجزري على وجوب مد المتصل، وذَكَرَ أن قصره غير جائز عند أحد من القراء، فراجعه إن شئت.

    * تنبيه: وقع في «الكبير»: (فمدَّدَها)، وفي «النشر»: (فمُدُّوها) وفي «المجمع»: (فمَدِّدُوها)، ولعل الصواب ما أثبتُّه)) اهـ.
    ويتضح من الروايات السابقة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمد في قراءته، وكانت قراءته مفسرةً حرفًا حرفًا، ومثله ابن مسعود -رضي الله عنه- ولا يتحقق ذلك إلا بضبط المخارج والصفات وأزمنة الحركات والسكنات، وأثبتَ ابن مسعودٍ المدَّ المُتصل في كلمة {{للفقراء}} وصَرَّحَ بأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أقرأَهُ بمدِّها.

    وكذلك يظهر لنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حثَّ على أخذ القرآن من أهل الإتقان، وخَصَّ منهم أربعة: ابن مسعود، وأُبَـيَّ بن كعب، وسالمًا -مَوْلَى أبي حُذَيْـفة- ، ومعاذ بن جبل، فـدَلَّ ذلك على أنَّ الصحابة كانوا يتفاضلون فيما بينهم في إتقان القراءة، وليست المفاضلة قائمة على الحـفظ فحسب، وإلَّا فلماذا يخـتصُّ هؤلاء بالذِّكْر من بين سائر الصحابة، والحُـفَّاظُ أكثر بكثيرٍ من أربعة؟

    5- أسانيد القُـرَّاء العشرة، ورُواتِهم العشرين؛ صحيحةٌ ناصعةٌ كالشمس، متواترةٌ كاللؤلؤ، متصلةٌ إلى الصحابة الكرام، فالقراءةُ سُـنَّـةٌ مُـتَّـبَعة، يأخذُها الآخِـرُ عن الأول، وقد نقلوا لنا القرآن بوجوهه وأحكامه غضًّا طريًّا كما أُنْـزِلَ، بما في ذلك المقصور والممدود، والمفتوح والمُمال، والمحذوف والمُـثْـبَت، والمُـدْغَم والمُـخْـفَى والمُـظْـهَر، … إلخ، كل ذلك بالتلقِّي والمُشافهة والتدريب، عَرْضًا وسماعًا، فهمًا وأداءً، على مدى جلساتٍ طويلة يجلسها الطالب بين يدي شيخه؛ حتى يشهد له بالإتقان والإحسان، فـينقل له إسناده، فـيرويه عنه متصلًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

    وهـنا يظهر الفارق بين تلقِّي القرآن وتلقِّي الحديث، فالحديث يُحفظ وتُدَوَّنُ أحكامه حديثًا حديثًا، وكل حديث له إسناده، وكل حاضرٍ سامعٍ للحديث بإمكانه أن ينقل الحديث بإسناده عن شيخه، أمَّا القرآن فـتُدْرَسُ أصول قراءته وفروعها جُملةً واحدةً على مدى فـترةٍ من الزمن، يبقى الطالب فيها يقرأ على شيخه آيةً آيةً، سورةً سورةً، ختمةً ختمةً، يتدرَّبُ ويُـقَـوِّم لسانه على القراءة الصحيحة؛ حتى يتبيَّن للشيخ إتقان الطالب وأهلـيَّـتهُ لحمل الأمانة، فـيسمح له بالإقراء عنه والإسناد إليه، فـيقول: أقرأني شيخي كذا وكذا، وقرأتُ على شيخي بكذا وكذا.
    فلا يُعقَلُ أن يُطالِبَ مُطالِبٌ بحديثٍ مُـسـندٍ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصٍّ بكل آية، أو بكل مخرج حرف، أو مدٍّ، أو إمالةٍ، أو إدغامٍ، أو إخـفاءٍ، … إلخ!
    بل كل هذه الأحكام والضوابط تم نقلها إجمالًا في القراءات العشر المتواترة، فصارت متواترةً ضِمْنًا، والناقلون لها ثقاتٌ أثبات، وإن حدث خللٌ أو تحريفٌ في التلقِّي والمشافهة في زمن متأخر، سهوًا أو عمدًا، فلا خوف ولا ضير، فالأوَّلون سَطَّروا قواعد وضوابط القراءة في كتبهم، وهي باقية إلى عصرنا، نرجع إليها عند الاخـتلاف، فسرعان ما يتبيَّن لنا الحق من الباطل، والهدى من الضلال، تمامًا كعلم العقيدة وسائر العلوم، مع كثرة دعاة الفتنة وأئمة الضلال، تنتشر الخرافات والضلالات والادِّعاءات، فـنرجع إلى كتب سلفنا الأولين، ونعرض عليها تلك المُحْدَثات، فسرعان ما تنكشف وتنقشع غيومها أمام شمس أصول السُّـنة الساطعة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك.

    * وأما الدليل العقلي على شرعية أحكام التجويد ؛ فهو أنَّ التجويد ليس علمًا قائمًا بذاته؛ بل هو مزيجٌ من عدة علوم لا ينكرها عاقل أبدًا، وهذه العلوم هي: علم مخارج الحروف وصفاتها، وعلم النحو، وعلم الصرف، وعلم الرسم العثماني، وعلم التفسير.

    فأمَّا علم مخارج الحروف وصفاتها؛ فهو الذي يميز كل حرفٍ عن غيره من الحروف؛ بل هو الذي يميز كلام البشر عن أصوات البهائم، ويُعْرَفُ حديثًا بعلم الصوتيات (Phonics)، ولكل لغة علم صوتيات خاص بها.
    وعلم مخارج وصفات حروف اللغة العربية معروفٌ من القرون الثلاثة الأولى، وتكلَّمَ عن تفاصيله وأهميته القُصوَى أكابرُ أئمة اللغة، كالخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170هـ)، وسيبويه (ت180هـ).

    أمثلة يتضح من خلالها وجوب تحقيق مخارج الحروف وصفاتها:
    قال سيبويه في «الكتاب» (4/436) :
    ((… ولولا الإطباق لصارت الطاءُ دالًا، والصادُ سينًا، والظاءُ ذالًا، ولَخرجت الضادُ مِن الكلام، لأنه ليس شيءٌ مِن موضعها غيرها.
    وإنما وصفت لك حروف المعجم بهذه الصفات لتعرف ما يحسن فيه الإدغام وما يجوز فيه، وما لا يحسن فيه ذلك ولا يجوز فيه، وما تبدله استثقالًا كما تدغم، وما تخفيه وهو بزِنَة المتحرك)) اهـ.
    فـبـيَّنَ -رحمه الله- أنَّ صفة الإطباق -وهي إلصاق طائفة من اللسان بالحنك الأعلى- تختص بأربعة أحرف: الصاد والضاد والطاء والظاء، ولو زالت عنهم هذه الصفة ستتحول الصاد إلى سين، والطاء إلى دال [أو تاء]، والظاء إلى ذال، وستخرج الضاد من الكلام العربي، لأنها ذاتُ مخرجٍ فريد لا يشاركها فيه غيرُها من الحروف.
    فهل يقول عاقلٌ بجواز قلب الصاد سينًا في قوله تعالى: {{ونُفِخَ في الصُّور}} فتصير (السُّور)؟!
    أو قلب الطاء دالًا أو تاءً في قوله تعالى: {{كان ذلك في الكتاب مسطورًا}} فتصير (مسدورًا) أو (مستورًا) ؟!
    أو قلب الظاء ذالًا في قوله تعالى: {{وما كان عطاء ربك محظورًا}} فتصير (محذورًا)؟!
    بل لا يقبل عاقلٌ بذلك في كلام البشر، فما بالك بكلام الله !!

    ومثل ذلك يقال في سائر صفات الحروف.

    ويزداد الأمر وجوبًا حين يتَّحد الحرفان مخرجًا، مثل: السين والزاي، فلولا الهمس -وهو جريان النفس- في السين لَصارت زايًا، فمخرجهما واحد، وجميع صفاتهما متطابقة، ما عدا الهمس في السين، وضده -الجهر- في الزاي.
    فهل يُـفهَم كلام من يقول: (رِسْق، قول السُّور، زَماء) بدلًا من: (رِزْق، قول الزُّور، سَماء)؟!
    وعلى ذلك فـقِسْ كل المخارج والصفات.
    ومن هنا يتضح وجوب تحقيق الحروف وتمييز بعضها عن بعض، وإلَّا فسد اللفظ والمعنى، وحينئذٍ لا مجال للتدبر ولا للفهم إلَّا فهمًا سقيمًا يقتضي اعتقادًا فاسدًا وينبني عليه عملٌ أفسد.

    وكذلك علمُ النحو والصرف لا يصح المعنى إلَّا بضبطهما.
    مثال ذلك: مَن لا يعرف الفرق بين تاء الخطاب وتاء المتكلم فـقرأ في فاتحة الكتاب: {{صراطَ الذينَ أنعمتَ عليهم}} بضم تاء {{أنعمتُ}} بطلتْ صلاته بإجماع الفقهاء ووجَبَ عليه الإعادة.
    ومن أبرز مسائل هذا العلم: (الإدغام) وله أنواع، من أشهرها وأكثرها استعمالًا بين عامَّة الناس: (الإدغام الشمسي)، وعكسه: (الإظهار القمري)، ولكل منهما أربعة عشر حرفًا، فيجب إظهار لام التعريف إذا وقعت قبل حروف (ابغ حجك وخف عقيمه)، نحو: (الْقمر، الْخوف، الْحج)، ويجب إدغامها إذا وقعت قبل غير هذه الحروف، نحو: (الشَّمْس، النُّور، الرَّحيم)، فتحذف اللام وتُشَدِّد الحرف التالي لها، فتقول: (اشَّمْس، انُّور، ارَّحيم).
    فهل يقول قائلٌ بجواز فك الإدغام الشمسي، واللفظ باللام مُـظْـهَرةً؟!
    أم هل يقول عاقلٌ بعدم وجوب الإظهار القمري، وجواز إدغام: (اقَّمَر، اخَّوْف، احَّج)؟!!

    وأمَّا ما يُحكَى عن الإمام أحمد -إمام أهل السُّنة- أنه أنكر الإدغام، وعلَّلَ ذلك بأنه يخفي حرفًا من القرآن أنـزله الله ووعد عليه بعشر درجات! فأظـنه منسوبًا إليه خطئًا؛ بل أكاد أجزم أن هذه العلة المذكورة منسوبة إليه؛ إذ لا يخفى على جهبذ مثله أن الحرف المحذوف بالإدغام يتم التعويض عنه بتشديد الحرف التالي له، فإن كنت حذفتَ حرفًا، فـقد أضفتَ حرفًا بعده، فالحسنات العشر محفوظة بإذن الله، وكما اتَّضحَ آنِـفًا أن الإدغام كان موجودًا في أصل لغة العرب، وقد نـزَلَ القرآن بلسانٍ عربيٍّ مُـبين، ولم يـنـزل بلغةٍ أعجمية خالية من الإدغام.
    هذا، وإن ثبتَ إنكار الإمام أحمد للإدغام الكبير؛ فليس ذلك بحُجَّةٍ على بُطْلان الإدغام؛ بل الحُجَّة في ثبوت الدليل، وكُلٌّ يُؤْخَذُ مِن كلامه ويُـرَدُّ إلَّا النبي -صلى الله عليه وسلم- كما بدأنا الكلام.
    وقد تواترت أسانيد القُـرَّاء العشرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتلَّـقَـتْها الأُمَّـةُ بالقبول، ومنها قراءة الإمام أبي عمرٍو البصري، والإدغام الكبير بابٌ أصيلٌ فيها؛ بل وثبتَ بعض الإدغام الكبير في غيرها من القراءات المتواترة، كقراءة حمزة والكسائي وخلف العاشر، فمَن أنكر قراءة أبي عمرو مِن أجل الإدغام الكبير؛ لَزِمَهُ إنكار قراءة حمزة والكسائي وخلف العاشر لِذَاتِ السبب.
    أمَّا الإدغام الصغير فكثيرٌ جدًّا في جميع القراءات بلا استثناء، ولا يكاد يخلو منه سطرٌ من سطور المصحف، وما سمعنا عن أحدٍ من أئمة المسلمين وعامَّتهم أنكره، قديمًا أو حديثًا، فأين تذهبون؟! وإلى الله المصير.

    وأمَّا الرسم العثماني فهو المخطوط به القرآنُ بإجماع الصحابة في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ولا تجوز مخالفته بحال، ومن مسائله: معرفة المقطوع والموصول رسمًا، وما كُـتِبَ بالهاء أو بالتاء، وما ثبت لفظًا وحُذِفَ رسمًا، أو العكس.
    مثال ذلك:
    قوله تعالى: {{فأَيْـنَـمَا تُوَلُّوا فَـثَمَّ وجه الله}} [البقرة: 115].
    وقوله تعالى: {{أَيْنَ مَـا تكونوا يأتِ بكم الله جميعًا}} [البقرة: 148].
    فالآية الأولى رُسِمَتْ في جميع نُسَخِ المصاحف العثمانية بوصل (أين) بــ(ما)، فلا يجوز الوقف على (أين) ولو اضطرارًا، ولا يجوز البدء بعدها بــ(ما) مطلقًا.
    بينما رُسِمَتْ الآية الثانية في جميع نُسَخِ المصاحف العثمانية بقطع الكلمتين، فيجوز الوقف على (أين) اضطرارًا أو اختبارًا، بينما لا يحسُن الوقف اختيارًا لعدم تمام المعنى، ولا يجوز البدء بعدها بــ(ما) مطلقًا لأن ذلك سيؤدي إلى فساد المعنى.
    فانظر إلى أهمية ذلك في ضبط الوقف والابتداء ومراعاة المعاني.

    وأمَّا علمُ التفسير فهو المَعْـنِـيُّ بـبـيان غريب ألفاظ القرآن، وتوضيح معاني آياته، وتبيين أحكامها، وإبراز مقاصدها، ولا ينضبط الوقف والابتداء إلَّا بمعرفة معنى الآية، فمَن عرف المعنى وتَدَبَّـرَ وفَهِمَ استطاع أن يُحْسِنَ الوقف والابتداء.

    فالتجويد مزيجٌ من كل تلك العلوم، فمن حكم بـبدعيته لَزِمَـهُ الحكم بـبدعية هذه العلوم أيضًا، لأنه قائمٌ عليها، ناتجٌ عنها.

    والحقُّ: هو أن المذموم في ذلك الأمر بلا شك؛ هو التكلُّف والتنطُّع والوسوسة، بحيث يُـبالِغُ المَرءُ في تحقيق الحروف مبالغة مقزِّزة، بتطنين النونات، وحصرمة الراءات، ونحو ذلك من السوءات، ممَّا تشمئز منه الأسماع، وتنشغل به الأذهان عن تدبر المعاني وفهم مقاصد القرآن.

    وهذا هو عين ما قصده شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حين قال في «المجموع» (16/50) :
    ((ولا يجعل هِمَّته فيما حُجِبَ به أكثرُ الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إمَّا بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك, فإنَّ هذا حائلٌ للقلوب قاطعٌ لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغلُ النطق بــ(ءأنذرتهم)، وضم الميم من (عليهم)، ووصلها بالواو، وكسر الهاء أو ضمها، ونحو ذلك، وكذلك مراعاةُ النغم وتحسين الصوت)) اهـ.

    فلم يذم التجويد مطلقًا؛ بل ذَمَّ الوسوسةَ في تطبيقه، والتكلُّفَ المؤدِيَ إلى إشغال القلب عن فهم مراد الرب، وكذلك هو -قطعًا- لا يذم وجوه القراءات المتواترة في {{ءأنذرتهم}} أو {{عليهم}}؛ بل يذم شدة الانشغال بها وقت أداء العبادة ممَّا يُخْرِج القارئ عن خشوعه، وكذلك أيضًا هو لا يذم التغنِّي بالقرآن، كيف وقد أمر به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ؟! إنَّما قصد أن يذم التكلُّفَ فيه ومراعاةَ النغم أو ما يُسمَّى بالمقامات الموسيقية البدعية التي ابْـتُـلِـيَ بها طائفةٌ من القُـرَّاء.

    فإذا تبيَّنَ لك أنَّ أحكام التجويد مشروعة، وليست بدعية؛ بَـقِـيَ الجوابُ على سؤالٍ قائمٍ: هل أحكام التجويد واجبة فـيُـثابُ فاعلها ويأثم تاركها؟ أم مستحبة فـيُـثابُ فاعلها ولا يأثم تاركها؟
    والجواب باختصار: أنَّ منها ما هو جائـزٌ، كالرَّوْم عند الوقف على ضم أو كسر، والإشمام عند الوقف على ضم، ومنها ما هو مستحبٌّ، كمعرفة الوقف التام والحسن، ومنها ما هو واجبٌ؛ إذْ لا تقوم القراءةُ إلا به، ولا يصح المعنى إلا بتحقيقه، كالعلم بمخارج الحروف وصفاتها، وما يترتب عليها، ومعرفة قبيح الوقف والابتداء لاجـتنابه، ومعرفة الموصول رسمًا لاجتناب الوقف إلَّا على آخره، واجتناب الابتداء إلَّا بأوَّله، وقد مرَّت الأمثلة الموضحة لذلك.

    وبذلك يتبين الحق من الباطل، ويتضح الصواب من الخطإ، وأسأل الله دوام التوفيق والسَّداد، والهداية إلى سبيل الرشاد.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم.


    وكتبه/ أبو قدامة المصري – عفا الله عنه
    ليلة السبت 23 من شهر الله المحرَّم 1439هـ


    مواضيع مشابهة
    هـناك 5 تعليقات
  1. يقول adel19831010:

    جزاك الله خيرا

  2. يقول أبو رقية أحمد المرسي:

    بارك الله فيك ونفع بك وجعله في ميزان حسناتك

  3. يقول محمد الثالث بن عثمان:

    الحمد لله!
    جزاكم الله خيرا كثيرا يا أخي في الله. والله أنا مسرور جدا بعودتكم؛ زادكم الله علما وحلما، ونفعا للمتعلمين.

    شارك برأيك

    هل سـئمتَ من كتابة بياناتك؟ سجِّل عضويتك

    ⚠ تنبيه :   التعليق للرجال فقط